فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأول نقض نقض به سبحانه وتعالى هذه الدعوى بيان أنه يعذبهم فقال: {قل فلم يعذبكم} أي إن كنتم جامعين بين كونكم أبناء وأحباء بين عطف النبوة وحنو المحبة {بذنوبكم} وعذابهم مذكور في نص توراتهم في غير موطن ومشهور في تواريخهم بجعلهم قردة وخنازير وغير ذلك، أي فإن كان المراد بالبنوة الحقيقة فابن الإله لا يكون له ذنب فضلًا عن أن يعذب به، لأن الابن لا يكون إلا من جنس الأب- تعالى الله عن النوعية والجنسية والصاحبة والولد علوًا كبيرًا! وإن كان المراد المجاز، أي بكونه يكرمكم إكرام الولد والحبيب، كان ذلك مانعًا من التعذيب.
ولما كان معنى ذلك أن يعذذبكم لأنكم لستم أبناء ولا أحباء، عطف عليه نقضًا آخر أوضح من الأول فقال: {بل أنتم بشر ممن خلق} وذلك أمر مشاهد، والمشاهدات من أوضح الدلائل، فأنتم مساوون لغيركم في البشرية والحدوث، لا مزية لأحد منكم على غيره في الخلق والبشرية، وهما يمنعان البنوة، فإن القديم لا يلد بشرًا، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوصفين البنوة، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله؛ فبطل الوصفان اللذان ادعوهما.
ولما كان التقدير: يفعل بكم ما يفعل بسائر خلقه، وصل به قوله جوابًا لمن يقول: وما هو فاعل بمن خلق؟: {يغفر لمن يشاء} أي من خلقه منكم ومن غيركم فضلًا منه تعالى: {ويعذب من يشاء} عدلًا كما تشاهدونه يكرم ناسًا منكم في هذه الدار ويهين آخرين.
ولما كان التقدير: لأنه مالك خلقه وملكهم لا اعتراض عليه في شيء من أمره، عطف عليه قوله نقضًا ثالثًا بما هو أعم مما قبله فقال: {ولله} أي الذي له الأمر كله، فلا كفوء له {ملك السماوات} وقدمها لشرفها دلالة على ملك غيرها من باب أولى، وصرح بقوله: {والأرض وما بينهما} أي وأنتم مما بينهما، وقد اجتمع بذلك مع المُلكِ والإبداعِ المِلكُ والتصريف والتصرف التام، وذلك هو الغنى المطلق، ومن كان كذلك لم يكن محتاجًا إلى شيء من ولد ولا غيره، ولا يكون لأحد عليه حق، ولا يسوغ عليه اعتراض.
ولما كان التقدير: فمنه وحده الابتداء، عطف عليه قوله: {وإليه} أي وحده {المصير} أي الصيرورة والرجوع وزمان ذلك ومكانه معنى في الدنيا بأنه لا يخرج شيء عن مراده، وحسًا في الآخرة، فيحكم بين مصنوعاته على غاية العدل- كما هو مقتضى الحكمة وشأن كل ملك في إقامة ملكه بإنصاف بعض عبيده من بعض، لا يجوز عنده في موجب السياسة إطلاق قويهم على ضعيفهم، فإن ذلك يؤدي إلى خراب الملك وضعف الملك، فإذا كان هذا شأن الملوك في العبيد الناقصين فما ظنك بأحكم الحاكمين! فإذا عاملهم كلهم بالعدل أسبغ على من يريد ملابس الفضل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ}.
وفيه سؤال: وهو أن اليهود لا يقولون ذلك ألبتة، فكيف نقل هذا القول عنهم؟ وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق أنفسهم، فكيف يجوز هذا النقل عنهم؟
أجاب المفسرون عنه من وجوه:
الأول: أن هذا من باب حذف المضاف، والتقدير نحن أبناء رسل الله، فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله، ونظيره قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] والثاني: أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضًا على من يتخذ ابنًا، واتخاذه ابنًا بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة، فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم، لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله.
الثالث: أن اليهود لما زعموا أن عزيرًا ابن الله، والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن عزيرًا والمسيح كانا منهم، صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله، ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنسانًا آخر فقد يقولون: نحن ملوك الدنيا، ونحن سلاطين العالم، وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا، والرابع: قال ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه، فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة، وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلًا على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
ثم إنه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال: {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} وفيه سؤال، وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم، فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه، والاشكال عليه أن يقال: إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة، فإن كان موضع الإلزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله، ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا.
انظروا إلى وقعة أحد، وإلى قتل الحسن والحسين، وإن كان موضع الإلزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك.
ومجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم ليس بكاف في هذا الباب، إذ لو كان كافيًا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافيًا، وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعًا.
والجواب من وجوه:
الأول: أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا، والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول: لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا، ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال.
الثاني: أن موضع الإلزام هو عذاب الآخرة، واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] والثالث: المراد بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} فلم مسخكم، فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام، إلاّ أنهم لما كانوا من جنس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة، وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون: لا نسلم أنه تعالى يعذبنا، بل الأولى أن يحتج عليهم عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قويًا متينًا.
ثم قال تعالى: {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له، وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه، بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم.
وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلًا إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد، ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إلهيته ولخرج عن صفة الحكمة، وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه، وكما أن قوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} إبطال لقول اليهود.
فبأن يكون إبطالًا لقول المعتزلة أولى وأكمل.
ثم قال تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقًا واجبًا؟ وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه دينًا.
إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبًا.
ثم قال تعالى: {وَإِلَيْهِ المصير} أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19]. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأَحِبَّاؤُه} يعني: نحن من الله تعالى بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة، والوالد إذا سخط على ولده في وقت يرضى عنه في وقت آخر.
ويقال: معناه نحن أبناء الله وأحباؤه.
قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} يعني يحرقكم لأنهم كانوا مقرِّين بأنه يحرقهم أربعين يومًا أيامًا معدودة، قل لهم فهل رأيتم والدًا يحرق ولده أو يحرق مُحِبَّه؟ ففي الآية دليل أن الله تعالى إذا أحب عبده يغفر ذنوبه، ولا يعذبه بذنوبه، لأنه احتج عليهم فقال: {فَلِمَ يُعَذّبُكُم} إن كنتم أحباء الله تعالى، وقال في آية أخرى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] ففيه دليل على أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم، ولا المجاهدين الذين يجاهدون لقوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] ثم قال: {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} يعني أنتم لستم بأبناء الله ولا أحبائه، ولكن أنتم خلق كسائر خلق الله تعالى.
ثم قال: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أي يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} فيهينه ويتركه على الكفر {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الخلق {وَإِلَيْهِ المصير} يعني إليه المرجع، فيجزيهم بأعمالهم. اهـ.

.قال البغوي:

قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قيل: أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة، وقال إبراهيم النخعي: إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري، فبدلوا يا أبناء أبكاري، فمن ذلك قالوا: نحن أبناء الله، وقيل: معناه نحن أبناء رسل الله.
قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه فإن الأب لا يعذب ولده، والحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرون أنه معذبكم؟ وقيل: فلم يعذبكم أي: لِمَ عذّب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان، {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} فضلا {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} عدلا {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} قال ابن عباس: خوّف رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحِبّاؤه؛ فنزلت الآية.
قال ابن إسحاق: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبَحْرِيّ بن عَمرو وشَأسُ بن عَدِيّ فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذّرهم نقمته فقالوا: ما تُخوفنا يا محمد؟؛ نحن أبناء الله وأحِباؤه، كقول النصارى؛ فأنزل الله عز وجل فيهم {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} إلى آخر الآية قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عُبَادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مَبعثه، وتصفونه لنا بصفته؛ فقال رافع بن حُرَيْملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا من بعده؛ فأنزل الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
السُّدي: زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بِكري من الولد.